فضاء حر

ضد الانتحار وكل أنواع الاستسلام

يمنات

ضياف البراق

أتعاطى الشاي الأحمر والسجائر الأكثر من رديئة مع أصدقاء يفكرون كثيرًا بالانتحار. ها نحن نسخر من كل شيء، وننسف كل أنواع الكراهية والأمل. نتناقش معًا بأسلوب غير منظّم، عالي النبرة، ونتبادل أغرب الآراء وأوقح النكت، على نحو عدمي نبدو معه أكثر إثارة للشفقة والضجر. نقاش أشبه ببكاء طفل مصاب بالتوحد.

كلٌّ منَّا يلعن صديقه الآخر بهراء لُغوي مبتذَل. هكذا، نفتح صدورنا لاستقبال المزيد من الوجع والحزن والحرية. اننا، هنا، ندين واقعنا البشع بطريقتنا التشاؤمية الخاصة، فيما خطانا تهرول مسرعةً على طريق اللا وجود. ضحكنا المُنفلِت، أو هراؤنا الأبله، كله مقرف جدًّا، غير أنه حقيقي الطلعة، لأنه نابع من أعماق جراحنا النازفة.

أصدقاء مُمِلون، يائسون، مسحوقون مُذْ عرفوا أنفسهم، ومهزمون بين الحين والآخر، مع أنهم قرأوا مئات الكتب والأبحاث المتنوعة، المحلية والعالمية، الحرة واللا حرة. إنها القراءة العبثية. لا ولن أشفق عليهم. فالشفقة إهانة، كما يقول أوشو، وأنا مؤمن بذلك. بدلًا من الشفقة، سوف ألعنهم من أعماق قلبي.

حياتي أسوأ من حياتهم، وحظي أسوأ من حظهم، لكني ضد الانتحار، وضد كل أنواع الاستسلام. لن أكون قبيحًا.إنهم، وبكل أسف، لم يعرفوا الحرية بعد. الانتحار منطق النفوس الضعيفة، أي عديمة الحرية. عديم الحرية، هو شخص ضعيف الفكر والعاطفة. شخص غير حقيقي. شخص يفكر بالموت، ويستسلم له، في الوقت الذي يستطيع فيه هزيمته. كل شخص منّا، هو ليس هو، أي ليس ذاته، إلى أن يعتنق الحرية، ويكون في مستواها. الحرية تجعلنا حقيقيين. تجعلنا مُحبين للوجود كله. هكذا، نصبح معطائين ننشد الحياة بدلًا من الموت، ونساعد الآخرين بدلًا من الحقد عليهم. فنحن لا نكون أقوياء إلا حينما نكون أحرارًا حقًّا. منطق هؤلاء الأصدقاء، كابوس مرعب يلتف حول عنقي. يفكرون بالانتحار ولا يفكرون بأنفسهم، ولا بالعالم. مثقفون بلا روح. الروح هي كل شيء. الروح قوة حرة لا محدودة. الروح طاقة جمالية لا تفنى. من امتلك الروح، فقد امتلك الوجود كله.

صحيح أني متشائم على الدوام، لكن تشاؤمي مختلف تمامًا عن تشاؤمهم الرديء. تشاؤمي حر المعنى، كفاحي الحركة. تشاؤمهم عبودي، انهزامي، يهرب من الواقع، يركع له، بدلًا من أن يواجهه ويكافحه حتى يجعله أفضل. هذا النوع من التشاؤم، ينبع عادةً من العواطف الغشيمة وحسب.

أصدقاء طيبون كثيرًا، هاجسهم كله منغمس في عالم الانتحار. أقول لهم: ما هكذا يكون المثقف. المثقف الحق لا ينهزم، ولا يواجه العالم بمؤخرته. إنه مخلوق فعّال كالعاصفة التي تهب من جميع الاتجاهات، لتترك صداها وآثارها في أعماق كل شيء. المثقف عاصفة ذكية تشق طريقها وتشعل حرائقها المتوهجة وسط كل الظلمات. المثقف العظيم، حبل الحرية يلتف دائمًا حول عنق الاستبداد. الحرية بحث دؤوب عن الأفضل، عن المعنى المفقود.

مأساة هؤلاء الأصدقاء هي أنهم ربطوا أنفسهم بآراء وأغلال الآخرين. من يفعل ذلك، ليس حرًّا. لا تستسلم لعادات وتقاليد مجتمعك إن كانت تتنافى مع الجمال والحرية. انفض عنك كل استسلام.

سيوران كان حرًّا تمامًا، كان أخطر من هؤلاء الذين يفكرون بالانتحار بطريقة بلهاء، أو الذين ينتحرون لمجرد شعورهم بالألم أو الإحباط. مع أنه أكثر من هدد نفسه بالانتحار، وأكثر من امتدح الانتحار وروّج له، لكنه لم ينتحر أبدًا، بل عاش حياته كلها دون استسلام أو غباء. إنه فيلسوف عظيم، إذ استطاع بما يملك من حدس عميق أن يجعل فكرة الانتحار فسحة زاهية للحركة الحرة والعيش الإبداعي. حوّل الانتحار من كابوس إلى أمل. من طريق يؤدي إلى الموت، إلى طريق يؤدي إلى الحياة. هنا تتجلى عظمته.

بوذا، الذي قال بأن الحياة محض شر، لم يفكر يومًا بالانتحار، ولم يركع لشيء سوى الحب والعطاء. بل إنه، عندما اكتشف حقيقة الشر، حمل راية الكفاح والخير وراح يتدفق قُدُمًا… لماذا لم ينتحر أو يستسلم للجهل؟ لأنه عرف معنى الحرية، امتلأ بها، وعاش مُكافِحًا في مستواها طول حياته. لذا، هو لم يمت إلى الآن، ولن يموت. الحب باقٍ إلى الأبد.

أصدقائي هؤلاء، قرأوا ماركس كله، لكنهم لم يعرفوا عظمته. لم يغترفوا ولو شيئًا بسيطًا من نهره المتدفق بغزارة. ماركس أشعل ثورته الإنسانية النبيلة في كل مناطق العالم، رغم كل معاناته الشرسة وسوء واقعه المعقّد حينذاك. الرجل لم ينتحر؛ لأنه مثقف حقيقي، عضوي لا تقليدي، أي كان عاشقًا للحرية والخير. المثقف الحق، ثائر يحب الحياة ويهزم شرها بجمال روحه وتفكيره، لا بالكراهية أو الانتحار.

بدلًا من الانتحار، حاول أن تغرس وردة في أي مكان في واقعك القبيح، جرِّبِ الرقصَ مع ما تُحِب، اكتب قصيدة أو رسالة حرة للحياة أو لنفسك، عانق امرأة محرومة من الحب أو شجرة، تسامح مع قاتلك ولو في خيالك، غيّر نفسك باستمرار، امضِ قُدُمًا كيفما تستطيع، اعملْ أي شيء، لا تنعزل، لا تتجاهل صوتك الداخلي، طِرْ في أي اتجاه يضمن لك البقاء، تواصل مع غيرك بابتسامة على الأقل، أو بكلمة طيبة… إلخ.

حاول على الدوام. في كل محاولة ستصبح أفضل. في كل محاولة ستجد حياة أخرى. الاستسلام عبودية، ظلام كامل أسوأ من الموت.

من حائط الكاتب على الفيسبوك

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى